إن الآیة (89) من سورة الحج تصرّح بأنه من البشر أنفسهم (شهیداً من أنفسهم) وهو المستفاد من الآیات الاُخری فهی تستخدم «من» التبعیضیة فی
قوله تعالی: (من کل اُمّة).
فالشهید هو کالأنبیاء بشرٌ، لا هو من الملائکة ولا من الجن ولا من الکتب السماویة ولا اللوح المحفوظ، وفی هذا تأیید لما تقدم فی الحدیث عن آیتی سورة الإسراء أن المقصود فیهما من الإمام شخص لا کتاب سماوی، إذ أن الآیتین تتحدثان عن الاحتجاج الإلهی به علی اُمّته وهذا هو دور الشهید فی هذه الآیات أیضاً، فالمقصود واحد فی کلتا الحالتین، فالإمام هو أیضاً منهم.
والآیات الکریمة تستخدم صیغة المفرد فی وصفه، أی إنّ الشهید علی قومه واحد فی زمانه الذی یعاصره حیاً، وهذا ینسجم مع استخدام آیة سورة الإسراء المتقدمة لصیغة المفرد فی ذکر الإمام (کل اُناس بامامهم). الأمر الذی ینفی التفسیر القائل بأن الاُمة الاسلامیة جمعاء أو جماعة المؤمنین الآمرة بالمعروف والناهیة عن المنکر هی الشهیدة علی أعمال قومها أو الأقوام الاُخری المعاصرة لها، والأمر نفسه یصدق علی نفی القول بأن مصداق هذه الآیات هم «الأبدال» الذین لا یخلو منهم زمان کما ورد فی الروایات المرویة من طریق الفریقین.(1) بل شهید الأعمال فی زمانه واحدٌ لا أکثر.
وحیث إن دوره هو الشهادة علی أعمال اُمته بالکفر والتکذیب أو الإیمان والتصدیق کما تقدم القول عن الزمخشری وهذه حالات قلبیة وحیث إن: «من الواضح أن هذه الحواس العادیة فینا والقوی المتعلّقة بها منا لا تتحمّل إلاّ صور الأفعال والأعمال فقط، وذلک التحمل أیضاً إنما یکون فی شیء یکون موجوداً حاضراً عند الحس لا معدوماً ولا غائباً عنه، وأما حقائق الأعمال والمعانی النفسانیة من الکفر والإیمان والفوز والخسران، وبالجملة
کل خفی عن الحس، ومستبطن عند الإنسان ـ وهی التی تکسب القلوب وعلیه یدور حساب رب العالمین یوم تبلی السرائر کما قال تعالی: (ولکن یؤاخذکم بما کسبت قلوبکم)(2)، فهی مما لیس فی وسع الإنسان إحصاؤها والإحاطة بها وتشخیصها من الحاضرین فضلاً عن الغائبین إلاّ رجل یتولی الله أمره ویکشف ذلک له بیده»(3)
لذلک یجب أن تکون للشهید علی أُمته إحاطة علمیة ربانیة بحقائق أعمالهم لأن قیمة الأعمال فی المیزان الإلهی هی لحقائقها الباطنیة ودوافعها ونوایاها کما هو واضح، لذلک لا یمکن أن یکون هذا الشهید علی أُمته شخصاً عادیاً بل من الذین یحظون بنعمة التسدید الإلهی المباشر ومن الذین ارتضاهم الله سبحانه فأطلعهم علی غیبه إذ من مصادیق غیبه معرفة بواطن أعمال الناس.
ومن المعلوم أن هذه الکرامة لیست تنالها جمیع الأمة، إذ لیست [هی] إلاّ کرامة خاصة للأولیاء الطاهرین منهم، وأما مَن دونهم من المتوسطین فی السعادة والعدول من أهل الإیمان فلیس لهم ذلک… إن أقل ما یتصف به الشهداء ـ وهم شهداء الأعمال ـ أنهم تحت ولایة الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقیم»(4)
1) راجع معجم أحادیث الإمام المهدی: 274/1، نقلاً عن مسند أحمد وغیره من المجامیع الروائیة لأهل السنة.
2) البقرة (2): 225.
3) تفسیر المیزان: 320/1 ـ 321.
4) تفسیر المیزان: 321/1.