و أمّا قوله: «فإنّ أعمار خیر أمّة إنّما یکون من الستّین إلى السبعین»، فمردود و غیر مقبول؛ أمّا من حیث العقل فلیس فیه ما یحکم باستحالة بقائه و وجوده حتى یمتنع و لا یکون معقولا لحکمه جازما بأنّ الله تعالى على ذلک لقدیر، على أنّنا قد وجدنا الکثیر من المسلمین فی عصرنا بلغت أعمارهم أربعین و مئة و ما فوقها، ثمّ إنّ ابن تیمیّة لم یسلم من التناقض؛ فإنّه قرّر هنا أنّ أعمار خیر أمّة إنّما یکون من الستّین إلى السبعین، و هناک تراه یقرّر بقوله: «إذ لا یعرف أحد ولد فی زمن الإسلام عاش مئة و عشرین سنة»، فإنّ فحوى هذا القول یدلّ بصراحة على أنّه قد عاش کثیرون فی زمن الإسلام خمس عشرة و مئة، أو عشر سنین و مئة، أو مئة کاملة، و مع ذلک تراه یزعم أنّ أعمار خیر أمّة من الستّین إلى السبعین، و هل هذا إلّا تناقض بیّن؟
و أمّا من حیث الفنّ، فحسبک شهادة الأطبّاء الماهرین، کما فی مجلّة المقتطف المصریّة، ص 239، من الجزء الثالث، سنة 59، قالوا: «لکن العلماء الموثوق بعلمهم یقولون: إنّ کلّ الأنسجة الرئیسیّة فی جسم الحیوان تقبل البقاء إلى ما لا نهایة له.
و إنّه فی الإمکان أن یبقى الإنسان حیّا ألوفا من السنین إذا لم تعرض علیه عوارض تصرم حبل حیاته»، و لیس قولهم هذا مجرّد ظنّ و تخمین، بل هو نتیجة لنظریّة علمیّة مؤیّدة بالاختبار، و قالوا أیضا فی ص 240 من المجلّة نفسها: «و غایة ما ثبت- الآن- من التجارب المذکورة أنّ الإنسان لا یموت بسبب بلوغ عمره الثمانین و المائة من السنین، بل لأنّ العوارض تنتاب بعض أعضائه فتتلفها، و لارتباط بعضها ببعض تموت کلّها؛ فإذا استطاع العلم أن یزیل هذه العوارض
أو یمنع فعلها لم یبق مانع من استمرار الحیاة مئات من السنین». و إن ابتغیت المزید من أدلّة جواز بقاء الإنسان ألوفا من السنین فعلیک بمراجعة علم الحیوان- البیولوجیات- لتعلم أنّه لا مانع من ذلک عقلا. ثمّ إنّ اختلاف الناس فی القابلیّات و الاستعدادات أمر لا سبیل إلى إنکاره، فمن الجائزاذن أنّ الله تعالى قد أودع فی جسم الإمام المنتظر علیه السّلام قابلیّات و استعدادات و طاقات لا تؤثّر فیها تلک العوارض اللاحقة لجسمه الشریف، و ما المانع من أن یکون الله تعالى خلق فی جسمه من المواد (البنسلینیّة، أو الأورمایسینیّة، أو السترتبومایسینیّة- الخمیرة المتموجّة- أو الکلورومایسینیّة) أو غیرها من الموادّ التی توصّل العلم إلى اکتشافها فی قتل الجراثیم أو منع تأثیرها، و ما لم یتوصّل إلیه لحدّ الیوم، و قد یتوصّل إلیه یوما ما، ما یمنع تأثیرها أو یقضی على کلّ (مکروب و جرثوم) یوجب تلف أعضائه فیبقى حیّا ما شاء الله تعالى، کما یجوز أنّ الله تعالى منع وصول تلک الجراثیم إلیه من طرق أخرى على ما رآه من الحکمة و الصلاح فی استمرار حیاته و بقائه، کما سنعرّج على توضیحه فی القریب عند دفعنا لشبهات المنکرین وجوده علیه السّلام ، و لیس هناک من یستطیع أن یمنع هذا أو یحکم باستحالته أو استبعاده و استغرابه إلّا الذی لربّه کنود أو لعقله مکابر أو للعلم معاند.
و أمّا من حیث القرآن، فلأنّه ذکر أنّ حیاة نوح النبی علیه السّلام ألف سنة إلّا خمسین عاما، و هی المدّة التی مکث فیها فی قومه یدعوهم فیها إلى عبادة الله، و هذا إبلیس عدوّ الله حیّ موجود إلى الوقت المعلوم، و ناهیک بالکتاب شاهد عدل علیه، و لقد فات هؤلاء المنکرین أن یتمثّلوا بقول الشاعر المسلم العربیّ:
و قولک: إنّ الاختفاء مخافة
من القتل شیء لا یجوزه الحجر
فقل لی لماذا غاب فی الغار أحمد
و صاحبه (الصدّیق) إذ حسن الحذر؟
و لم أمرت أمّ الکلیم بقذفه
إلى نیل مصر حین ضاقت به مصر؟
و کم من رسول خاف أعداه فاختفى
و کم أنبیاء من أعادیهم فرّوا؟
أیعجز ربّ الخلق عن نصر دینه
على غیرهم؟ کلّا فهذا هو الکفر
و هل شارکوه فی الذی قلت: إنّه
یؤول إلى جبن الإمام و ینجر؟
فإن قلت: هذا کان فیهم بأمر من
له الأمر فی الأکوان و الحمد و الشکر
فقل فیه ما قد قلت فیهم فکلّهم
على ما أراد الله أهواؤهم قصر
و إن تسترب فیه لطول بقائه
أجابک إدریس و الیاس و الخضر
و فی ابن أبی الدنیا جلیّ دلالة
على أنّ طول العمر لیس له حصر
و مکث نبیّ الله نوح بقومه
کذا قوم أهل الکهف نصّ به الذّکر
و قد وجد الدجّال من عهد أحمد(1)
و لم ینصرم منه إلى السّاعة العمر
و قد عاش أوج ألف عام وفوقها
و لو لا عصا موسى لأخره الدهر
و من بلغت أعمارهم فوق مئة
و من بلغت ألفا فلیس له حصر
فقول ابن تیمیّة ساقط مردود، و رأیه مصادم للنصوص القطعیّة.
1) و یقول ابن حجر الهیتمی، فی ص 27 من کتابه الفتاوى الحدیثة: عن أبی الإسکافی عن النبیّ صلّى الله علیه و آله و سلم أنّه قال: «من کذّب بالدجّال فقد کفر، و من کذّب بالمهدیّ فقد کفر».