ویُلاحظ أن هذه الأحادیث الشریفة تصرح بأنّ خفاء الولادة من العلائم البارزة المشخصة لهویة المهدی الموعود والقائم من ولد فاطمة الذی بشرت به الأحادیث النبویة، وهذا أحد الأهداف المهمة للتصریح بذلک وهو تعریف المسلمین بإحدی العلائم التی یکشفون بها زیف مزاعم مدّعی المهدویة کما شهد التأریخ الإسلامی الکثیر منهم ولم تنطبق علی أی منهم هذه العلامة، فلم تُحَطْ ولادة أی منهم بالخفاء کما هو ثابت تأریخیاً(1)
وتشیر الأحادیث الشریفة المتقدمة الی علة إخفاء ولادته (علیه السلام) وهی العلة نفسها التی أوجبت إخفاء ولادة نبی الله موسی (علیه السلام)، أی حفظ الولید من سطوة الجبارین ومساعیهم لقتله إتماماً لحجة الله تبارک وتعالی علی عبادة ورعایة له لکی یقوم بدوره الإلهی المرتقب فی إنقاذ بنی اسرائیل والصدع بالدیانة التوحیدیة ومواجهة الجبروت الفرعونی بالنسبة لموسی الکلیم ـ سلام الله علیه ـ، وهکذا إنقاذ البشریة جمعاء وإنهاء الظلم والجور وإقامة القسط والعدل وإظهار الإسلام علی الدین کله بید المهدی المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ. وهذا ما کان یعرفه ائمة الجور من خلال النصوص الواردة بهذا الشأن، ففرعون مصر کان علی علم بالبشارات الواردة بظهور منقذ بنی اسرائیل، وهو موسی (علیه السلام) من أنفسهم ولذلک سعی فی تقتیل أبنائهم بهدف منع ظهوره، وکذلک حال بنی العباس إذ کانوا علی علم بأن المهدی الموعود هو من ولد فاطمة ـ سلام الله علیها ـ، وأنه الإمام الثانی عشر من ائمة أهل البیت(علیهم السلام) وقد
انتشرت الأحادیث النبویة المصرحة بذلک بین المسلمین ودوّنها علماء الحدیث قبل ولادة المهدی بعقود عدیدة، کما کانوا یعلمون بأن الإمام الحسن العسکری هو الإمام الحادی عشر من ائمة العترة النبویة (علیهم السلام)، لذا فمن الطبیعی أن یسعوا لقطع هواجس ظهور المهدی الموعود بالإجتهاد من أجل قطع نسل والده العسکری (علیهما السلام).
ومن الواضح أنّ مجرد احتمال صحة هذه الأحادیث کان کافیاً لدفعهم نحو إبادته، فکیف الحال وهم علی علم راجح بذلک خاصةً وأن لیس بین المسلمین سلسلة تنطبق علیهم مواصفات تلک الأحادیث الشریفة مثلما تنطبق علی هؤلاء الائمة الإثنی عشر (علیهم السلام) کما لاحظنا مفصلاً فی البحوث السابقة؟!
وعلی ضوء هذه الحقیقة یمکن أن نفهم سر ظاهرة قصر الأعمار التی میزت تأریخ الائمة الثلاثة الذین سبقوا الإمام المهدی (علیهم السلام) من آبائه، فقد اُستشهد ابوه العسکری وهو ابن ثمان وعشرین(2) واستشهد جده الإمام الهادی وهو ابن أربعین سنة(3) واستشهد الإمام الجواد وهو ابن خمس وعشرین سنة(4)، وهذه ظاهرة جدیرة بالدراسة، وتکفی وحدها للکشف عن المساعی العباسیة الحثیثة لإبادة هذا النسل للحیلولة دون ظهور المهدی الموعود(5) حتی لو لم یسجل التأریخ محاولات العباسیین لاغتیال وقتل هؤلاء
الائمة، فکیف الحال وقد سجل عدداً من هذه المحاولات تجاههم (علیهم السلام)، حتی ذکر المؤرخون مثلاً أنهم قد سجنوا الإمام العسکری وسعوا لاغتیاله عدة مرات، کما فعلوا مع آبائه (علیهم السلام)(6)؟!
یقول الإمام الحسن العسکری معللاً هذه الحرب المحمومة ضدهم(علیهم السلام) فیما رواه عنه معاصره الشیخ الثقة الفضل بن شاذان:
قال: حدثنا عبدالله بن الحسین بن سعد الکاتب قال: قال ابو محمّد [الإمام العسکری (علیه السلام)]: «قد وضع بنو اُمیة وبنو العباس سیوفهم علینا لعلتین: احداهما انهم کانوا یعلمون انه لیس لهم فی الخلافة حق فیخافون من ادعائنا إیّاها وتستقر فی مرکزها، وثانیتهما انهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة علی ان زوال ملک الجبابرة والظلمة علی ید القائم منا، وکانوا لا یشکون انهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا فی قتل أهل بیت رسول الله(صلی الله علیه وآله) وإبادة نسله طمعاً منهم فی الوصول الی منع تولد القائم (علیه السلام) أو قتله، فأبی الله أن یکشف أمره لواحد منهم (إلاّ أن یتم نوره ولو کره الکافرون)»(7)
1) ذکر تراجمهم الدکتور محمد مهدی خان مؤسس صحیفة الحکمة فی القاهرة فی کتابه «باب الأبواب» الذی خصص جانباً منه لدراسة حرکات أدعیاء المهدویة.
2) الفصول المهمة لابن الصباغ المالکی: 288.
3) مروج الذهب للمسعودی: 4/ 169.
4) الفصول المهمة لابن الصباغ المالکی: 276.
5) لقد امتدّت هذه المحاولات الی داخل بیت الإمام(علیه السلام) فزرعت العیون من النساء لمراقبة ما یحدث داخل بیت الإمام(علیه السلام)، للقضاء علی الإمام المهدی(علیه السلام) إن وَلد، بل قد امتدت هذه الجهود للحیلولة دون ولادة الإمام(علیه السلام) ومن هنا لم یتزوّج الإمام الحسن العسکری(علیه السلام) بشکل رسمی کما هو المتعارف والمتداول حینذاک.
6) راجع الفصل الخاص بذلک فی کتاب حیاة الإمام العسکری (علیه السلام) للشیخ الطبسی: 421 ـ 424.
7) إثبات الهداة للحر العاملی: 3/ 570، منتخب الأثر للشیخ لطف الله الصافی: 359 ب 34 ح 4 عن کشف الحق للخاتون آبادی وبذیله ما یدل علیه من سائر الأخبار غیر القلیلة.